الأربعاء، 30 مايو 2012

محي الدين - من حكايا الشام

الصورة من اختيار وتخطيط فنان دمشق المرهف المهندس اسامة البيك

محي الدين
كان يرى هذا الرجل في الأسواق وهو شبه عارٍ من ملابسه وفي عنقه المسابح ويدعى الجذب ويطوف المدينة من محل إلى محل آخر يأخذ ما يشاء من الخبز والفاكهة دون أن يتعرض له أحد وكان شهيراً جداً في المدينة . ففي أحد أيام الشتاء كنت جالساً في منزلي منفرداً وإذ دخل حلاقي على غير ميعاد حلاقتي فسألته ماذا يريد على غير عادة ، أجاب أني أتيت إليك بمريض وهو محي الدين الذي تراه في الأسواق متجولاً . قلت ماذا أفعل به وهو معتوه ؟ أجاب إنه مصاب بعينيه ولا تظنه معتوهاً فترى منه ما يدهشك إنما لا يقابلك إلا منفرداً . قلت أدخله عليَّ . فدعاه ودخلا إلى الغرفة وقفل الباب وراءه . فقال له إهدأ وقل للطبيب مرضك . فسألته عن مرضه وأسبابه . فأخبرني عنه وكان يعلله لي بكل تعقل . فوضعت له علاجاً وكلّفته أن يرجع في اليوم الثاني ففعل ، وبعد أربعة أيام تم شفاؤه . وأراد أن يدفع لي أجرتي فأبيتها لأنني علمت أن بواسطته سأنتفع كثيراً فسألته هل يوجد من يعتقد بك ؟ قال إن كثيراً من الناس يعتقدون بي الصلاح ويكرمونني . وسألته هل يعرف منزل محمد بك الذي توفي منذ مدة ؟ قال إن أعرف كل من هناك فماذا تريد منهم ؟ قلت اسمع حكايتي معه .
عندما قدمت إلى الشام وأعلنت أنني طبيب درست في مصر أتان كل ذوي العاهات المزمنة أخصهم الذين كانوا جربوا الأطباء الوطنيين وهم يأملون بكل طبيب جديد خيراً على ظن أنه يكون عارفاً دواءً جديداً ، فيرى الطبيب كثرة زبائنه فيظن بنفسهُ اغتنى ، ولكن لا يلبث أن يضمحل أمله ويصبح كالآخرين ومن جملة من داويتهُ كان محمد بك ، دعيت لعيادته ففحصته ووجدتهُ مصاباً بالسل الرئوي فعلمت استحالة شفائه وأخبرت أهله بذلك فرجوني أن أصف لهُ علاجاً ليتسلى ولا يقطع أملهُ فيعز به فكر الموت قبل حصوله . قلت أما على هذا الشرط فلا بأس ووضعت لهُ جرعة مسكنة ، وفي اليوم الثاني دعوني أيضاً وقالوا لي أن البك طلبك لأنه ارتاح على علاجك ونام ، فأعدت لهم كلام الأمس وأن شفاءه يستحيل ، فقالوا لي هذا الرجل غني جداً وسيترك كل غناه ويموت ، ولا يهمه لو أخذت قليلاً من كثير من هذه التركة ، فامتثلت وصرت أكرر زياراتي إلى أن توفي . وبعد مدة أرسلت لورثته قائمة الحساب ولكن لم يكن من مجيب ، ومضت مدة طويلة وأنا أطالب بمالي عندهم ولكن كنت كالكاتب على صفحات الماء ، أخيراً تركت هذه المسألة ولم أعد أطالب بها ولم أتشكَّ عليهم كي لا يقال أني طبيب وتشكيت على مريض عالجته ، ولما يئست من كل طرق الإنسانية والسياسية ارتأيت أن ألتجئ إلى الطريقة الدينية التي ساعدتني حين كان يسرقني خادمي مع الدخاخني ، فقلت لمحيي الدين هل يعتقد بك أهل هذا المنزل ، قال نعم ، قلت أرجوك أن تعمل طريقة تنولني حقي وتفي عن ذمة محمد بك ما عليه ، فقال لي غداً إن شاء الله يكون مالك عندك .
وفي اليوم الثاني نحو الظهر حضر إلى منزلي وكيل محمد بك يبلغني سلام عائلته ويطلب مني الحساب الذي لي عندهم ، قلت إني أترك هذا الحساب للآخرة والله يفعل ما يشاء ، فعندما سمع ذكر الآخرة ارتعب وقال سندفع لك حسابك حالاً غير أني أرجوك أن تخبرني عن المقدار الذي تطلبه ، قلت أربعين ريالاً ، فاستكثره وحاول تخفيض شيء منهُ ، فلم أقبل وقلت له أو أن تعطني المبلغ كلّهُ أن أتنازل عنهُ فذهب ورجع بعد ساعتين وأعطاني ما طلبت .
وفي اليوم الثاني حضر محيي الدين يسألني عن وصول المبلغ إليَّ فأجبته بالإيجاب وسألته عن الطريقة التي عملها حتى نلت حقوقي فقال إنني ذهبت قبل الفجر إلى منزل محمد بك وصرت أقرع الباب بشدة حتى ذعر من في البيت وقاموا بدهشة وفتحوا الباب وحين رأوني سألوني عما أريد فطلبت مقابلة أصحاب المنزل ، ولما رأيتهم قلت له أن محمد بك مديون لشخص قبل وفاته وإن لم تفوا الدين الذي عليه يؤخذ منه دينه في الآخرة بدل دينه ، والرجل قد خلّف ثروة عظيمة فلماذا لا تفوا الدين الذي عليه لطبيب وهو زهيد جداً ، فحالاً أمروا الوكيل أن يأتي ويدفع لك مهما طلبت ، فشكرت فضله وأردت إعطاؤه خمس ريالات فرفض قبولها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق