الثلاثاء، 27 يناير 2015

مئذنة الشحم وعيد الجلاء - محمد بسام سلام


مئذنة الشحم وعيد الجلاء




في الخمسينات كانت تتميز مئذنة الشحم عن باقي احياء دمشق بطقوسها الخاصة بعيد الجلاء.


فهؤلاء الناس الذين ذاقوا مرارة الاحتلال حق لهم التمتع بحلاوة الاستقلال والتحرر من عبودية  المستعمرالاجنبي ,

 

 

وكما للاعياد الدينية بريقها واستعداداتها من مأكل وملبس ومشرب كان للجلاء اعداداته ومباهجه ,.

فالعرض العسكري التي تقيمه الدولة تسبقه الحشود من القطعات العسكرية المشاركة وتتوضع في الامويين والملعب البلدي ابتداء بالمشاة والمغاوير وانتهاء بالهجانة والبستهم المميزة .

 

ومن الصباح الباكر يهرع اهالي الشام ليحتلوا اماكنهم على جنبيات شارع بيروت الذي ستمر منه فرق العرض العسكري مصطحبين مآكلهم ومشاربهم شيوخا وشبابا نساء واطفالا .

 

وعلى المنصة التي ستضم كبار القوم من الرئيس ورئيس الوزراء والنواب وكبار الضباط وكبار الموظفين , والى جانب السرادق يتوضع مذيعوا الاذاعة السورية .ليقوموا بوصف العرض عبر مكبرات الصوت التي تغطي المنطقة بمجملها وهو في الوقت ذاته نقل حي ومباشر عبر الاذاعة لمن فاته الحضور .

 

ويشتد انفعال المذيعين مع مرور كل قطعة عسكرية , فمع مرور المدافع يتهدج صوت المذيع.... الان تمر قرب المنصة المدفعية ورجالها الذين يدكون بحممهم البركانية معاقل العدو........ المغاوير اسود الوطن ...... وتلتهب اكف الناس بالصفيق والهتاف ...... وعند انتهاء العرض يعود الناس الى بيوتهم منتشين مزهوين بلحظات الوطنية التي عاشوا فيها سحابة يومهم .

 


اما اهالي مئذنة الشحم فيعودون ليقيموا افراحهم الخاصة , فأبو كاسم شر قد اعد بجثته الضخمة المطلية باللون الاسود مرتديا الخوذة والدروع الاسلامية ملوحا بسيفه البتار وراكبا حصانه العربي الابيض ليمثل دور عنترة بن شداد العبد الذي تحرر من نير العبودية بسيفه وقوته , يشاركه عنكوش ابو فارس وهو شخصية شهيرة في الحارة بدور شيبوب اذي يتحرك حوله ويمسك حصانه .

 

عند مصلبة مئذنة الشحم يقف عنتر وشيبوب تاركين فسحة لتجمع الناس حولهم ويتقاطر الناس من اهل الحي والمارة متجمهرين ويأخذهم الحماس بالهتاف: 

 يابلوطن يا بلكفن ...... عز بلادي ثوارا 

ديغول خبر دولنك  ..... باريز مربط خيلنا 

ونشتد الحماس مع قيام اصحاب معامل السكاكر والملبس بتوزيعها ورشها على الجموع وتخلرج صواني الحلويات لتبدأ عند كبار رجالات الحارة المصطفين قدام جامع الحبوبي يتقبلون التهاني من الناس بهز الرأس برضى وتواضع . 

مجازيب الحارة حمودة وموسى يرددون هتافات تفسيرها على الله .

النساء خلف الجموع بشاركون بابنساماتهم 


وترى بعض الرجال وقد اغرورقت عيونهم بالدموع لتذكر اهاليهم من الثورة السورية الكبرى فقد قدم هذا الحي اعدادا كبيرة من الشهداء روت دمائهم تراب الغوطتين .......... 

الدكاكين تزدان بصور الرجال مزنرين بجنادات الفشك (الذخيرة) والبواريد   ....... بكل فخر واعتزاز مئذنة الشحم وعيد الجلاء - محمد بسام سلام

يهبط اظلام وتبدأ الجموع بالانحسار .........

 

ابو كاسم ييرجل عن حصانه ليودعه في  البايكه ويتوجه الى الحمام ليزيل الطلاء ويرتب الزي الحديدي الدي يرتديه لعام مقبل جديد ......رحم الله تلك الايام


الأربعاء، 14 يناير 2015

بين بيروت والشام





بين بيروت والشام


لطالما أصرّ الدمشقيون على النظر إلى بيروت لانفتاحها المفرط على العادات الغربية في الملبس والإنفاق والعلاقات الاجتماعية نظرة ريبة وقلق ولاسيما أن أواصر القربى والنسب كبيرة ومتداخلة بين أبناء المدينتين.
شباب الشام اليافعين يمنون النفس برحلة إلى بيروت لكثرة ما سمعوا من أقرانهم ومتقدميهم عن مباهج بيروت التي تؤجج الأحلام الوردية, وتحررهم من أجواء دمشق المتحفظة في كثرة الممنوعات, وكان الكبار في الشام يستعيذون بالله من هذه الأحلام والتطلعات متمسكين بمقولتهم المقدسة (أول طلعة العكروت مشوار لبيروت).
أهل أمي من آل العشي تعود أصولهم إلى اللد والرمل في جنوب سوريا, قبل سايكس بيكو توزعوا في دمشق وبيروت منذ بداية القرن العشرين في وعملوا في تجارة اللحوم والأغنام فالخال عزو استقر في بيروت مع أسرته وافتتح دكانه لبيع لحوم الأغنام في منطقة البسطا تجمع أهل السنة أكلة لحوم الأغنام حصرا وحصل على جنسية لبنان الكبير وعرف بعزو الشامي ( والتسمية لا تخلو من عنصرية) وكأن الباقين قد نزحوا من سويسرا؟.
أما أبناء العمومة فتوزعوا في دمشق فأبي راغب علي العشي افتتح دكانه الصغير على زاوية جامع الحبوبي في مئذنة الشحم وقد عرف بلقبه ( الكوزو) وفي مئذنة الشحم لكل لقبه الذي يعرفه به الجميع وكل الألقاب في هذا الحي مكروهة من قبل أصحابها وأسرهم, كما افتتح أولاد خالتهم أولاد أسرة الزعيم كان لهم متجر كبير في مئذنة الشحم أيضا...... 


وكثر الزواج بين أبناء العمومة, فأولاد الشام شدهم إلى قريباتهم اللبنانيات ميلهم إلى المرح والأناقة, والرطن بالعبارات الفرنسية وهوسهم بالنظافة في حين أننا وللأسف في الشام نبالغ بالاعتناء بالطهارة ولا نولي النظافة العناية نفسها....... والشباب (البوارته) كما ندعوهم شدهم إلى قريباتهم الشاميات حمرة الخجل واطراقة الرأس والبعد عن (آلات مكي) أو المكياجات والإيحاء بالطاعة بحكم النشأة والتركيب, والانتماء لذات الحسب والنسب.
مشاعر الفرح والبهجة كانت تظلل زيارة أهلنا البوارتة (أهل بيروت) إلى بيوتنا, نتفرغ للاحتفاء بهم ونسعد بهداياهم, فسمك السردين المقلي الرائع كنا على موعد معه في كل زيارة لزوجة الخال عزو وطبق المفتّقة حلوى لذيذة من إبداعاتها, عندما تتولى الطبخ وتعد ورق العنب وتحته المقادم وتحول كل نساء البيت إلى عمال سخره بين يديها, فيتظاهرن بالرضا وفي أنفسهن غصة تجاه تلك المتسلطة.
 وفي المساء تعقد حلقات السهر والمسامرة فهم يفتقدون بشوق إلى مياه الفيجة العذبة الباردة التي لا تحتاج إلى براد وعندما تذكر البراد ندهش حسدا فقد كنا نعتمد (الكبك) لحماية ما يزيد عن طبخة اليوم من القوارض والأطفال الذين يسلون قطع اللحمة من الصحون ويتركونها خاوية على عروشها, وكانت الثلاجة حلم من أحلامنا حيث اقتصر وجودها على بعض بيوتات المنعمين في دمشق. 
 
وقد كان الحسد الأكبر ينتابنا و كنا مولعين بالسينما عندما يأتي الحديث عن التلفزيون..... سينما في المنزل (لا اله إلا الله) ومجانا وفي اغلب البيوت (الفترة أواسط الخمسينات قبل دخول التلفزيون  ).... كم هي متحضرة هذه البيروت... وكم هم سعداء هؤلاء الناس. 


تحقق الحلم في أواسط الستينات حين قررت إدارة ثانوية يوسف العظمة القيام برحلة إلى بيروت والمفاجآت الثانية أن المرحوم والدي وافق على انضمامي للرحلة... أحلام اليقظة رافق الليالي السابقة, وقد تعددت المصادر لعلاقتنا ببيروت فكل بيت بالشام مزود بصليب خشبي يعمل لاقطا ليستقبل القناة سبعه اللبنانية لينعم ببرامج مثل بيروت في الليل مع حسن المليجي وسعد الدين بقدونس ومسلسلات أبو ملحم وأم ملحم وبرامج المسابقات مع غاستون شيخاني التي ترعاها الشركات وتغدق في الجوائز, بعيدا عن برامج العمال والفلاحين ونشرات الأخبار التي تهز البدن وتقصر العمر عندنا. 


لم ننم تلك الليلة لشدة فرحنا ووصلنا إلى المدرسة قبل الموعد بساعتين....... ووصل الباص وبرفقته الأستاذ أبو الخير حتاحت مدرس الكيمياء والفيزياء والذي نكن له كل المحبة والاحترام رحمه الله وطيب ثراه, لمرحه وتفانيه في مهنته وحرصه على تفوق كل الطلاب بمادته.................... ولن أطيل عليكم فقد قضينا سحابة ذلك اليوم في تناول ما حملنا من المأكولات على الطريق في منطقة ظهر البيدر حيث الثلوج المتراكمة والجرافات التي تقوم بفتح الطريق أمام القوافل التي تكومت بانتظار فتح الطريق..... 


مع غروب ذلك اليوم, وصلنا إلى بيروت والفرح يفيض من جنباتنا وانزلونا في ساحة البرج التي تضج بالحياة والصخب,وتعج بالمارة سينما الريفولي ترقص بأضوائها الملونة وكان في مخططاتنا أن نحضر فيلما لن تشوهه الرقابة التي خص الله بلادنا بها, ولكن إدارة المدرسة اختارت لنا فندقا مناسبا لإمكاناتنا المادية في أول شارع المتنبي (شارع الدعاره التاريخي) ذا إطلالة على الشارع كله, فزاد فرحنا, وأملنا أن نحظى بجولة فيه للاطلاع على ما وراء تلك اللافتات المضاءة بالنيون والألوان وتخمل أسماء (ديانا الحلبية – ريتا التركية – جينا الخ...), ولكن وبعد أن وضعنا أحمالنا في الغرف وحددنا الأسرة واختلفنا فيمن سيأخذ السرير إلى جانب الشباك, نزلنا إلى بهو الفندق لنجد الأستاذ أبو الخير بابتسامه المرحة المهيبة وقد انتحى جانبا يتسع لنا جميعا, قائلا : سأتبرع واحكي لكم حكاية, تظاهرنا بالفرح الذي تحول بعد دقائق إلى فرح حقيقي بفضل أسلوب الأستاذ الشيق الممتع, وتداخلت الحكايات, حتى تأكد أبو الخبر أن النعاس قد طالنا جميعا فأحالنا للنوم بعد يوم شاق طويل.
في الصباح غادرنا الفندق والشارع الذي أسدل ستائره فلا حياة  فيه , ومنحنا سويعات لممارسة التجوال والطعام في محيط تلك الساحة الرائعة استعدادا لرحلة العودة .
في رحلة العودة اشترى كل منا علبة كلينكس وعلبة بسكويت ثلاث خمسات 555, قام موظفوا الجمارك السورية بمصادرتها , بعد ان حاضر فينا كبيرهم وحملنا مسؤولية تدمير الاقتصاد الوطني .........

المشكلة انني وزملائي لم نتفق على المغامرات التي سنسردها لرفاقنا في الشام .؟؟؟؟

السبت، 16 فبراير 2013

فندق المنظر الجميل -



فندق المنظر الجميل




الشاميون على اختلاف مشاربهم يميلون الى ادخال التحسينات على الفاظهم لاعطاء المعنى بشكل لائق ومقبول انطلاقا من ان( الكلمه المنيحه طالعه والرديه طالعه ) وينفرون من الكلمات النابية ويعيبون على جيرانهم البيارتة ( اهل بيروت ) استخدام ماهب ودب من الشتائم عند غضبهم .
وعلى سبيل المثال لا الحصر يصفون المتخلف عقليا بالمبارك بقولهم ( عنه على البركه ) وكان الايمان ببركة حموده المتخلف المسالم في حيينا مئذنة الشحم ان النساء يتسابقن الى اكرامه وسؤاله عن جنس المولود لدى فلانة الحامل فيصفن حموده قليلا ثم يجيب مبتسما (شبي )اي ذكر فيبشرونها فأن اصاب هلل الجميع بأن حموده قد بشرهم بذلك وان اخطأ فالامر يذهب في غياهب النسيان ...... ولايسمون الاعرج اعرجا فيلطفونها بقولهم فلان ( بياخد من رجله ) فيدرك السامع المعنى .... وكذالك بمن فقد البصر باحدى عينيه فيقال فيه ( عينو كريمه ) وادري ما علاقة الكرم بفقدان البصر .
وعلى عادة النساء بأسداء النصح حرصا على السمعه وخشية المستقبل فتهمس في اذن صديقتها منتقدة سلوك احد ابنائها بأنه يسكر ويعربد( الله يعفو عنا ) كما سمعت من ابناء الحارة عنه وهي تتخوف ان احدا لن يرضى تزويجه مستقبلا , فتجيبها الام بكل فخر واعتزاز ( المعتر .. معطر ) .... وتردف بدعائها له ( الله يمحي كاساته ) ....
واما عند ذكر المصائب والكوارث فلزم ان تسبقها جملة دعائية للسامع تخفف من وقعها فمع ذكر الحريق تسبقها عبارة (  الله لايحرقلك قلب على غالي ) او( كش بره وبعيد ) او ( بعيد من ئبالي ) ( الله لايورجيك شي تكرهو ) .....
وعند ذكر الجن واذاهم للناس فالجميع يردد ( دستور من خاطرهم , دستور ياسيادنا , دستور يا ملايكة الله ) ووجب على كل سيدة ان تحفظ وتردد دعاء تنبيه الجان اذا ارادت سكب الماء الساخن في  مجلى المطبخ  فتقف وتردد ياملايكة الله لاتآزونا ومامنآزيكم , ايمو ولادكم لحضانكم ولا تئولو ما النالكن )  وتتنظر برهة ثم تسكب الماء , حتى لاتتعرض لاذاهم كما تعرضت فلانة وفلانه والقائمة تطول ......
وكذلك عند ذكر الأولياء والمشايخ من أهل الخطوة واهل وأهل ألطريقه وأهل الحظوة عند رب العالمين فهذا( قدس الله سره ) وذاك ( دستور من خاطره ) ( وشي لله يا سيدنا ) ..
والشام أم المشايخ والأولياء , فالسروجي بطاح الجمل والشيخ رسلان حامي البر والشام .......وكثير غيرهم ممن ( يفكون المربوط ) ويحلون عقدة من طالت عنوستها , الى من يضربون المندل ويبطلون مفعول السحر فكلهم ( دستور من خاطرهم .

وانسحب ما سبق على الدولة التي يسكن أهلها في الشام وتصهرهم ويتخلقون بأخلاق أهلها , فيتدمشقون بكل طيبة ويسر , فقاموا بتجميل بعض أسماء المناطق لتصبح لائقة ومقبولة , فحارة الزط( التي تمتد من شارع اليهود الذي سمي الأمين لاحقا , نسبة للسيد محسن الأمين ) إلى الشاغور والدقاقين , عدل إلى حارة الإصلاح .......... وحي المزابل في  الضفة الأخرى من العمارة , تحول إلى الشرف الأعلى  ونهر عيشه عدل تأدبا إلى حي السيدة عائشة .

وجرت عمليات تجميل للمآكل تساعد الفقراء على اعتبار فقرهم منة عليهم , فالبدائل متاحة لهم وينعمون بخيراتها
لما كان الزيت رخيصا والسمن غال :
كول زيت وعارك الحيط
ولما كان الرز للاغنياء والبرغل للفقراء :
البرغل بسامير الركب
ولما كانت لحوم الضأن مرتفعة الأسعار :
إن فاتك الضاني عليك بالحمصاني
ومن لايطال لفقره الا الخبز :
خبز الحاف بيعرض الكتاف
وهلم دواليك.........
وما اردت الوصول اليه هو ذلك المكان المتوضع على الزاوية اليسرى عندما تلج الى البزوريه من مدحت باشا , فعلى الرصيف الايمن والايسر للشارع تقف الطنابر وروث بغالها يملا الارض والحمالون يفترشون الارصفة ومنهم من يتناولون طعامهم  فرادى وجماعات ومنهم من خلع حذائه البلاستيكي وتمدد في قيلولة , فاختلطت رائحة الاقدام المتعرقة برائحة روث البهائم واختلطت اصوات اجراس البغال بأصوات الباعة المتجولين ............والانكى ... من هذا وذاك ان تلك الزاوية فوق المحلات تظهر منها شرفة بطول متر واحد وعرض نصف متر بلوحة كتب عليها ......
فندق المنظر الجميل 
اليس هذا كثير؟


الجمعة، 25 يناير 2013

من قتل الحمار




لخالي ابو الحسن شاربان معقوفان يقف عليهما الصقر بشكل حقيقي, وليس  كلاما للمبالغة وعينان حادتان تذكران براسبوتين . الى جانب حمرة وجهه الاسمر وتقاطيعه الصارمة التي تدخل الرعب في القلوب عندما يكون غاضبا  .نبرة صوته تجمد الدم في العروق ، ولكن ما ان يبدأ
تدخين نرجيلته حتى يتحول الى شخصية وادعة تفيض حنانا وحبا على من حوله وتسمع منه احلى النوادر وامتعها , فتنعم بجلسته وكرم ضيافته .
ومشكلة خالي هي  مع الجنس الاخر فلخالي مواصفات في المرأة وشراكة الحياة لا تقبل المناقشة فالنظافة والطبخ المعيار الاساسي وغير ذلك لايهم , مما اعيا امي وخالتي ام محمد , في البحث عن عروس له تحمل مواصفاته الى جانب مواصفات خاصة اردنها هن . ولكن هيهات ,ولاسيما انه فقير الحال يعمل عتالا في البزورية , ويسكن ببيت في بساتين الغوطة من اللِبن والطين .
ولان خالي مناضلا في مبادئه , قرر ان يقلع شوكه بيديه ويبحث عن ضالته بنفسه , فوجدها عند العجائز , فتزوج ام صديقه الحميم صبحي الذي بر امه وبر صديقه , ولكن طيب الله ثراها لم تعمر طويلا , وكان مشهودا لها بالنظافة والنفس الطيب الطاهر في الطعام .
وتزوج بعدها عدة زوجات في مثل سنها وقدراتها , وكان فراقهن سريعا ,فهذا امر الله ولا مرد لامره .
اضحت شخصية خالي تتسم بالحزن والكآبة لكثرة مادفن من نسوان , ولكن كما قالوا ان [الله لايترك ِحمل بارك ] , مع ان[ الشهادة لله ]لم يقصر احد من الاسرة معه في الخدمة والرعاية , الى ان أتى ذلك اليوم بضيوف من بيروت ( بوارتة) هم معارف وقربى بعيدة لزوجة خالي الاوسط ابا غازي , وانتفض الجميع على عادتهم لاكرام الضيوف .
من الضيوف ضيفة مميزة , ام محمد غزالة في العقد السادس من عمرها , سريعة الحركة , كثيرة التعليق على قلة النظافة او ما تعتبره هي قلة نظافه , لاني سمعت  امي وخالتي تهمسان بصوت خافت وتصفانها بالموسوسه , وهو ضرب من جنون النظافة ودعون في سرهن الا تكون من نصيب خالي عسى ان يرزقه الله بضنى يقر به اعين الجميع .
وعندما تطوعت ام محمد في اليوم التالي للزياره بأن تطبخ لتذيق الاشوام المغرورين الطبخ البيروتي, فاعدت ورق العنب وتحته مقادم الغنم بصلصة البندورة , أذهلت   الجميع كبارا وصغارا , صنعة, واتقانا ,ونفسا طيبا ,فتشرب الحب في قلب الخال  ابوحسن واعجب بصاحبة الطعام وهام بها منذ تلك اللحظة , معتبرا ان الله قد من عليه واكرمه بفتاة احلامه .برم شارباه و
فاتحها بالزواج فورا , ولم تجد حرجا في القبول  فأولادها كلهم متزوجون و هو لاوراءه ولاقدامه , لم تفكر ام محمد طويلا ,فهو في العقد الثالث , شابا وسيما , فأجابته على الفور :
يلزمنا قاض ليعقد بيننا .
اجاب خالي : هذه سهلة ,فصهري قاض وهو موجود بيننا .
اما الصهر فهوالمرحوم والدي الذي يعمل في الدولة ويكتب ويقرأ , ويرتدي بزة وربطة عنق وله مهابة وحضور جاد .
تناول والدي علبة سجائر البافرا[وهي من افخم انواع السجائر وتقدم للضيوف] ,لانه لم يجد ورقة يكتب العقد عليها , وفتح غطائها وتناول قلم الحبر وسجل المعلومات , ردد الالفاظ  شهد الشهود , دعا للعروسين , وبارك الزواج السعيد,و ظلت ام محمد على اعتقادها بأنه قاض وعومل بمنتهى التبجيل حتى وفاته رحمه الله .
ومنذ تلك اللحظة اصبحت ام محمد اهم شخصية في الاسرة , ونجحت في فرض مفاهيمها على الجميع دون استثناء فالاطفال يجب ان يأكلوا وحدهم وباشرافها ,فكانت تطعم عشرة اطفال معا وبيديها بوقت واحد وبطريقة رائعة , وتقضي اوقات فراغها بالزراعة في بستان خالي ,فزرعت الفاصولياء الحمانية ( العريضه), ولم تكن معروفة في الشام , الى جانب انواع من الخس الافرنجي , اصبح يبيعها الخال وتوقف عن العتالة ,وربت بضع دجاجات, فلا تخلو دارها من البيض البلدي ,وكثيرا ما تعرضت حظيرة الدجاج لسرقة البيض واللصوص ليسوا بغرباء
اولاد سلفها المجاورين غازي وفيصل فهم فصيل من الجان , فلم تفرح بإمساكهم بالجرم المشهود , ولا ادلة الا احساسها القاطع ولكنه لايكفي ....
والى جانب الزراعة كانت الخياطة الهاجس الثاني لام محمد فاستقطبت الجوار والاهل .
 وابدعت في مهنتها حتى قيل انها تضاهي جورجيت الباريسية ,مع فرق بسيط في الالبسة والاقمشة والزبائن , فالسراويل التي تصنعها حسب الشرع [لانها حجت بيت الله وتعرف الحلال من الحرام]  مريحة جدا في القيام والقعود والمطاط ليس شديدا فيحز على البطن وليس رخوا يتساقط دون علم صاحبه ,وله تطريزة صغيرة و مميزة تعطيه طابع من صنعه كما يفعل اليوم كريستيان ديور وفرزاتشي.
وعرفت بانها شديدة في الامور المالية فليس لديها اي شيء مجاني لا لقريب ولا لبعيد واذا صادف ان تجرأ احد وحاول ان يتمسكن ويلوي رقبته متعللا بالقربى او الفقر اصاب منها غضبا عنيفا ولسانا زفرا معجونا بنعوت وسموم ونفايات , هو واهله واجداده الاولين , تحرك فيه الشعرة الميتة وتجعله نادما ومحذرا غيره من التورط بمثل هذه الجريمة ذات العقاب الفوري .
ولكن وكما يردد العماوي الصديق القريب لخالي ابو حسن عبارته الشهيرة [ بني آدم اسود راس] لكل من يحاول ان يقترب طامعا من ام محمد , وقد قالها صراحة لابي رياح عندما لمح الاخير قائلا باستنكار: ابو حسن محظوظ , عنده اكثر قميصين , ونحن على فيض الكريم......؟,مع  هذا فأبو رياح وهو من اقرب الاصدقاء لخالي وللعماوي و اضف الى ذلك روابط العمل لانه  يعتبر من كبار الضمانة للتوت الشامي ويقضي جل وقته في قطافه معتليا السلالم ممسكا بالسطل .                
ولا يملك من الدنيا الا البسته وحمارته ومهنته وقد اضفت الى سماته الخلقية شكلا يعرف به فهو مديد القامه نحيل جدا , اكتسب وجهه وشعره والبسته ويديه الوان التوت فالبقعة الداكنة قديمة والبقعة الفاتحة جديدة وتجد حالك امام لوحة تجريديه تشبه الى حد ما لوحات بيكاسو في المرحلة الزرقاء , وهو مفلس ومديون مزمن , التوت فترة العمل به قصيرة ,
 والسنة طويلة ,فأعتمد وآمن بأن الديون القديمة تموت بالتقادم ومرور الزمن ,والديون الجديدة تستوجب الاستمهال بها حتى تصبح قديمة , والدنيا دار فناء ,
وفي جلسة صفاء بين خالي وابو رياح قال الاخير : يا ابو حسن ألك  أم للديب , , اجابه محتدا :خسىء الديب ؟
اريد منك التوسط لي عند ام محمد لتخيط لي قميصا وسأدفع ثمنه من كل بد عند الموسم القادم
ضاقت الدنيا في عيون الخال واحتار في امره .... وقال دعني افكر  ........
فكر ..وفكر ..واطرق وهو يعرف تماما موقف ابو رياح من الديون ,ويتجنب غضب ام محمد وهي على باطل فكيف وهي على حق ؟؟؟     همس ابو حسن قائلا : ابحث الفكرة معها ولنرى .


وكانت منكبة على ماكينة الخياطة رفعت رأسها وحاجبيها وجحظت بعينيها , فأردف ابورياح متوسلا : يستر عرضك استريني بقميص والله ما عندي.
لمع الحل كفكرة عبقرية عند ام محمد : ابو رياح لن نخسر بعضنا بسبب الدين , كلمة واحدة, حمارتك حبلى وستلد قريبا واريد الكر بدل القميص ,هل تقبل ,اقبل وامري لله ,يوم الجمعة القادم تلبس القميص .
بعد ثلاثة اسابيع ولدت حمارة ابو رياح , بحضور ام محمد لقطع الطريق على ابي رياح حتى بالتفكير بأي ملعوب لتهريب الحمار الصغيرة ,حتى انها احضرت معها رضاعة حليب حتى لا تبقيه عنده بحجة الرضاع .
الفرحة العارمة سرت باوصال الاسرة , واسمينا هابا القميص ,
فنال هذا الحمار من  الحب والطف والحنان مالم تنله مواليد الاسرة من الاطفال ,والشهادة لله انه يستحق الحب لوداعته وشكله المنمنم وقلة جعيره , حتى ان خالي تعلق به اكثر من زوجته , وجعل منه جليسه بعد ان حرمه الله الضنى , فكلما حضر نارجيلته بمكانه المعهود قرب الساقية ,افرد له مكانا الى جانبه وجعل يسحب الانفاس وينفخها في وجه الحمار مداعبا ومدللا .
وسرح الخال باحلام اليقظة فقد يكون هذا الحمار ,آية الرزق , وخيرا من الاولاد ... من يدري...
ولان دوام الحال من المحال , صعقنا لموت الحمار الصغير ,ابو قميص , بشكل فاجئنا جميعا , وكنا نعتبره فرد من اسرتنا , ولم يكمل الشهرين  فقط .
وبدأت الالسنة الحاقدة تلوك ونلوم ام محمد بدءا من زوجة خالي الثانية ام غازي : الحمار لايعيش بعيدا عن امه , انها امرأة لاتخاف الله ولا ترحم , واردفت احدى قريباتنا من بعيد  :أم محمد لاتتصدق وليس عندها شيء لله , اما يكفيها وهي العجوز وعلى حافة القبر انها تزوجت شاب مثل عود الخيزران , الله يسترها من شيء اعظم .وتتالـت النظريات وكلها تحمل ام محمد مسؤولية موت ابو قميص .
لم اسمع أي تعليق من امي أو خالتي حول الموضوع برمته ,وكنت احرص على الجلوس قريبا منهن.

بعد مغادرة الضيوف اقتربت امي برأسها من خالتى وهمست : سميحة , محتارة بموتة الحمار..........
أجابت خالتي : والله انك هبلاء , لاتحتاري القصة و ما فيها واضحة اخوك ابو حسن يدخن الحشيش بالارجيلة وينفخ في وجه ,وبعد ان تزوج مقصوفة الرقبة صارت تحضر له انواع قويه من الحشيش من لبنان ,ياحسرتي اخوك متعود على الحشيش ولكن الحمار لا..........
ياحسرتي ماتحمل ؟؟؟؟؟
شهقت والدتي ...مرددة أي والله ...أي والله ....أي والله.............