الأربعاء، 14 يناير 2015

بين بيروت والشام





بين بيروت والشام


لطالما أصرّ الدمشقيون على النظر إلى بيروت لانفتاحها المفرط على العادات الغربية في الملبس والإنفاق والعلاقات الاجتماعية نظرة ريبة وقلق ولاسيما أن أواصر القربى والنسب كبيرة ومتداخلة بين أبناء المدينتين.
شباب الشام اليافعين يمنون النفس برحلة إلى بيروت لكثرة ما سمعوا من أقرانهم ومتقدميهم عن مباهج بيروت التي تؤجج الأحلام الوردية, وتحررهم من أجواء دمشق المتحفظة في كثرة الممنوعات, وكان الكبار في الشام يستعيذون بالله من هذه الأحلام والتطلعات متمسكين بمقولتهم المقدسة (أول طلعة العكروت مشوار لبيروت).
أهل أمي من آل العشي تعود أصولهم إلى اللد والرمل في جنوب سوريا, قبل سايكس بيكو توزعوا في دمشق وبيروت منذ بداية القرن العشرين في وعملوا في تجارة اللحوم والأغنام فالخال عزو استقر في بيروت مع أسرته وافتتح دكانه لبيع لحوم الأغنام في منطقة البسطا تجمع أهل السنة أكلة لحوم الأغنام حصرا وحصل على جنسية لبنان الكبير وعرف بعزو الشامي ( والتسمية لا تخلو من عنصرية) وكأن الباقين قد نزحوا من سويسرا؟.
أما أبناء العمومة فتوزعوا في دمشق فأبي راغب علي العشي افتتح دكانه الصغير على زاوية جامع الحبوبي في مئذنة الشحم وقد عرف بلقبه ( الكوزو) وفي مئذنة الشحم لكل لقبه الذي يعرفه به الجميع وكل الألقاب في هذا الحي مكروهة من قبل أصحابها وأسرهم, كما افتتح أولاد خالتهم أولاد أسرة الزعيم كان لهم متجر كبير في مئذنة الشحم أيضا...... 


وكثر الزواج بين أبناء العمومة, فأولاد الشام شدهم إلى قريباتهم اللبنانيات ميلهم إلى المرح والأناقة, والرطن بالعبارات الفرنسية وهوسهم بالنظافة في حين أننا وللأسف في الشام نبالغ بالاعتناء بالطهارة ولا نولي النظافة العناية نفسها....... والشباب (البوارته) كما ندعوهم شدهم إلى قريباتهم الشاميات حمرة الخجل واطراقة الرأس والبعد عن (آلات مكي) أو المكياجات والإيحاء بالطاعة بحكم النشأة والتركيب, والانتماء لذات الحسب والنسب.
مشاعر الفرح والبهجة كانت تظلل زيارة أهلنا البوارتة (أهل بيروت) إلى بيوتنا, نتفرغ للاحتفاء بهم ونسعد بهداياهم, فسمك السردين المقلي الرائع كنا على موعد معه في كل زيارة لزوجة الخال عزو وطبق المفتّقة حلوى لذيذة من إبداعاتها, عندما تتولى الطبخ وتعد ورق العنب وتحته المقادم وتحول كل نساء البيت إلى عمال سخره بين يديها, فيتظاهرن بالرضا وفي أنفسهن غصة تجاه تلك المتسلطة.
 وفي المساء تعقد حلقات السهر والمسامرة فهم يفتقدون بشوق إلى مياه الفيجة العذبة الباردة التي لا تحتاج إلى براد وعندما تذكر البراد ندهش حسدا فقد كنا نعتمد (الكبك) لحماية ما يزيد عن طبخة اليوم من القوارض والأطفال الذين يسلون قطع اللحمة من الصحون ويتركونها خاوية على عروشها, وكانت الثلاجة حلم من أحلامنا حيث اقتصر وجودها على بعض بيوتات المنعمين في دمشق. 
 
وقد كان الحسد الأكبر ينتابنا و كنا مولعين بالسينما عندما يأتي الحديث عن التلفزيون..... سينما في المنزل (لا اله إلا الله) ومجانا وفي اغلب البيوت (الفترة أواسط الخمسينات قبل دخول التلفزيون  ).... كم هي متحضرة هذه البيروت... وكم هم سعداء هؤلاء الناس. 


تحقق الحلم في أواسط الستينات حين قررت إدارة ثانوية يوسف العظمة القيام برحلة إلى بيروت والمفاجآت الثانية أن المرحوم والدي وافق على انضمامي للرحلة... أحلام اليقظة رافق الليالي السابقة, وقد تعددت المصادر لعلاقتنا ببيروت فكل بيت بالشام مزود بصليب خشبي يعمل لاقطا ليستقبل القناة سبعه اللبنانية لينعم ببرامج مثل بيروت في الليل مع حسن المليجي وسعد الدين بقدونس ومسلسلات أبو ملحم وأم ملحم وبرامج المسابقات مع غاستون شيخاني التي ترعاها الشركات وتغدق في الجوائز, بعيدا عن برامج العمال والفلاحين ونشرات الأخبار التي تهز البدن وتقصر العمر عندنا. 


لم ننم تلك الليلة لشدة فرحنا ووصلنا إلى المدرسة قبل الموعد بساعتين....... ووصل الباص وبرفقته الأستاذ أبو الخير حتاحت مدرس الكيمياء والفيزياء والذي نكن له كل المحبة والاحترام رحمه الله وطيب ثراه, لمرحه وتفانيه في مهنته وحرصه على تفوق كل الطلاب بمادته.................... ولن أطيل عليكم فقد قضينا سحابة ذلك اليوم في تناول ما حملنا من المأكولات على الطريق في منطقة ظهر البيدر حيث الثلوج المتراكمة والجرافات التي تقوم بفتح الطريق أمام القوافل التي تكومت بانتظار فتح الطريق..... 


مع غروب ذلك اليوم, وصلنا إلى بيروت والفرح يفيض من جنباتنا وانزلونا في ساحة البرج التي تضج بالحياة والصخب,وتعج بالمارة سينما الريفولي ترقص بأضوائها الملونة وكان في مخططاتنا أن نحضر فيلما لن تشوهه الرقابة التي خص الله بلادنا بها, ولكن إدارة المدرسة اختارت لنا فندقا مناسبا لإمكاناتنا المادية في أول شارع المتنبي (شارع الدعاره التاريخي) ذا إطلالة على الشارع كله, فزاد فرحنا, وأملنا أن نحظى بجولة فيه للاطلاع على ما وراء تلك اللافتات المضاءة بالنيون والألوان وتخمل أسماء (ديانا الحلبية – ريتا التركية – جينا الخ...), ولكن وبعد أن وضعنا أحمالنا في الغرف وحددنا الأسرة واختلفنا فيمن سيأخذ السرير إلى جانب الشباك, نزلنا إلى بهو الفندق لنجد الأستاذ أبو الخير بابتسامه المرحة المهيبة وقد انتحى جانبا يتسع لنا جميعا, قائلا : سأتبرع واحكي لكم حكاية, تظاهرنا بالفرح الذي تحول بعد دقائق إلى فرح حقيقي بفضل أسلوب الأستاذ الشيق الممتع, وتداخلت الحكايات, حتى تأكد أبو الخبر أن النعاس قد طالنا جميعا فأحالنا للنوم بعد يوم شاق طويل.
في الصباح غادرنا الفندق والشارع الذي أسدل ستائره فلا حياة  فيه , ومنحنا سويعات لممارسة التجوال والطعام في محيط تلك الساحة الرائعة استعدادا لرحلة العودة .
في رحلة العودة اشترى كل منا علبة كلينكس وعلبة بسكويت ثلاث خمسات 555, قام موظفوا الجمارك السورية بمصادرتها , بعد ان حاضر فينا كبيرهم وحملنا مسؤولية تدمير الاقتصاد الوطني .........

المشكلة انني وزملائي لم نتفق على المغامرات التي سنسردها لرفاقنا في الشام .؟؟؟؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق