خواطر في حمام الناصري /1/
يعتبر حمام الناصري من أهم المعالم التي انقرضت في مئذنة الشحم, في طفولتنا استمتعنا بدخوله والاستحمام به في دور النسوان الذي يمتد من الصباح إلى آذان المغرب حيث يبدأ دور الرجال الذي يمتد إلى منتصف الليل ليعاود بعد آذان الفجر.
"منكيره" وهو اللبق (اللقب) الذي التصق بصاحب الحمام طغى على اسمه الأصلي إسماعيل بن حميد ,
كانت يتربع على مسطبة الإدارة موزعاً تحياته على زبائنه الذين في الغالب أبناء حيه فقل أن تجد غريبا في الحمام لكونه في المنطقة الداخلية للحي ورغم ذلك فقد وضع منكيرة لافتة باللغة الفارسية قرب القهوة (مواصفات الحمام يفتح ليلا ونهارا ماء ساخن وبارد) حيث أنه عند موسم الزيارة للسيدة زينب كان يأتيه العجم (الإيرانيون) الذين يسكنون بعض بيوت الحارة وأشهر تلك البيوت بيت (وهبة) وغالبا ما كانوا يأخذون الحمام بشكل كامل (سكارسا), وخارج أوقات الدوام تجد منكيرة صيفا على قهوة التوتة القريبة من الحمام يدخن نرجيلته مع شريكه في القهوة أبو صياح العشي ووجهاء الحارة كأبو علي الخطيب الذي كنا نعتقد في طفولتنا انه وزير الداخلية (وعندما كبرنا عرفنا انه مساعد أول في الشرطة) لكثرة ما سمعنا عن نفوذه في البلد (ايده طايله) وقد كان (رحمهم الله جميعا) يملأ جيوبه بفئة القرشين ونصف (النص فرنك الأحمر المبخوش) يوزعها على أولاد الحارة, وكنا نشتري بها (قدر قيمتها الشرائية في خمسينات القرن الماضي) قرص عجوة التمر أو راحة السكر أو بسكويت ....، إلى جانب بقية الوجهاء كخالي أبو غازي الفوال أهم رجال الحارة الأشداء الذين يحسب لهم حساب لشجاعته وقوة بنيته ونقاء أخلاقه, إلى جانب أبو عبدو التحري الذي غلب (لقب التحري) عليه لكونه من رجال المباحث وكان يرتدي الطقم ويضع ربطة عنق ويتصنع الرزانة على عادة الزعماء.
الحمام يولج إليه من ردهة طويلة مظلمة تنتهي بباب صغير إلى البراني وهو صالة كبيرة حولها مصاطب مرتفعة للزبائن ومصطبة منفردة للمعلم يقرب إليه من شاء بإجلاسه إلى جانبه وإعفائه من الأجرة (وفا الحمام), وفي الوسط بحرة من المرمر الأبيض يتدفق ماؤها بشكل مستمر وعلى أطرافها سماور الشاي والزهورات إلى جانب زجاجات المياه الغازية الأنيقة المبردة (اورانجو وسينالكو). وفي الزاوية الجنوبية باب إلى ردهة تستخدم لنشر المناشف.
الوسطاني ممر إلى يساره بحرة مربعة تتدفق وإلى اليمين غرفة صغيرة بها جرن وإلى جانبه طست كبير مملوء بسائل ابيض, وعلى بابها منشفة وملعقة ممكن أن تغطي ما بداخلها, وهذه الغرفة تعرف بغرفة الدواء وهو المادة البيضاء التي توضع على المناطق المراد إزالة الشعر عنها (المادة تركيبة أساسها الزرنيخ) وإزالة شعر العانة من السنن عند المسلمين ويحرصون عليها. ومنه إلى ردهة بها مصاطب للجلوس والاستراحة في فترات الاستحمام وتناول الأطعمة.
الجواني صالة كبيرة على جوانبها ثلاثة مقاصير وفي الصدر مصطبة بيت النار وهي الأشد حرارة وتستخدم لمعالجة بعض الأمراض ولحمام الفسخ للنفساء وسيأتي ذكره لاحقا. ومجموعة من الأجران تتدفق فيها صنابير الماء البارد والساخن دون حساب .
حمام السوق كما يطلق عليه مناسبة اجتماعية عند النساء من الصباح إلى ما بعد العصر والتحضير له يتم من اليوم السابق فتحضير البقجة للألبسة النظيفة والأكل من لفافات الزيت والزعتر للفقراء من أمثالنا مع بعض حبات البرتقال التي تفوح رائحتها العطرة ويطيب طعمها، أو الصفيحة التي تصنع بالفرن ويرسلها الذوات إلى أسرهن ظهرا مباشرة من الفرن مع (نعارات) اللبن الرائب وتتجلى الاشتراكية في أحلى صورها فكل الطعام للجميع وبإصرار وإيمان بكسر الهاء وعلى الرغم من التنبيهات الشديدة لنا من المرحومة أمي بان لا نقبل أي ضيافة من أي امرأة في الحمام مهما كانت عدا خالتي وجارتنا أم سعيد كنا نتجاوز بقبول قرص من الصفيحة رغم نظرات الوعيد والتهديد من الوالدة التي تذوب خجلا .
وكانت من أكثر الشتائم التي توجهها لنا المرحومة أمي بعد عودتنا مساء بثيابنا المتسخة وأشكالنا الرثة بعد يوم لعب طويل: جايه متل القميمي, فكنا نفهم ماتعني.
القميم الذي موقعه جانب مدخل الحمام يديره القميمي المختص بإشعاله والمحافظة على ناره متوقدة فإلى جانب نشارة الخشب يقوم القميمي بجمع ما يمكن حرقه من الزبالة من زبائل الحارة يضيفها إلى الوقود ولم يكن يتقاضى أجرا على عمله وإنما أجره من قدر الفول الفخارية التي يودعها الفوالون عند الغروب ويستردونها عند شروق الشمس فولاً مدمساً شهياً دون الحاجة إلى إضافة المواد الكيميائية كما يحدث الآن لإنضاجه.
اختص كل حي من أحياء دمشق باستضافة قرية من قرى ريف دمشق فيكون تجمعهم الرئيسي فكان أهالي جيرود يقطنون حي العمارة وكان من حظ مأذنة الشحم النبك فكان كراج النبك في شارع اليهود وكان سكنهم في البيوت الكبيرة التى هجر أصحابها الحي إلى الأحياء الجديدة الراقية (الشعلان وأبو رمانة ....الخ) واستثمروا بيوتهم القديمة بالتأجير غرفاً لأبناء النبك الذين عملوا بالعمار (ويطلق عليهم لفظ طيانه) .
ولأنهم من سكان الحي كان لزاما عليهم أن يكونوا من رواد حمام الناصري , وكان ضجيجهم في الحمام ومرحهم ومناسباتهم الاجتماعية الكثيرة وكان للحمام نصيب منها وكان طعامهم (المجدرة بالزيت) وكانوا يحضرون التبولة طازجة بالحمام ويوزعونها على الجميع ويدقون ويرقصون ويغنون أغانيهم الخاصة بهم (جملوا جملوا ياجملو) أما لغتهم فقد كانت صعبة وغريبة وبشكل عندما يتعاتبون فتحس بأن القيامة قد قامت أو أن الحمام قد قطع الماء عنه . ومع الأخذ بعين الاعتبار المدة الطويلة التي أقاموا فيها بالحي إلا أنهم حافظوا على لهجتهم وتقاليدهم وطريقة غذائهم .
وللحمام عربة ( طنبر ) خاص يه يقوده ابا طافش مزهوا بالبغل ( الكديش) الانكليزي الذي اقتناه منكيره من مخلفات السيرك الذي زار دمشق في 1955,فكان يشفط فيه في ازقة الحي ,وفي يوم الجمعة يستقل منكيرة واسرته الطنبر ويذهبون الى السيدة زينب للسيران .وكم كنت اتمنى ان يكون لوالدي طنبرا مثله لننعم بسيران يوم الجمعه .